الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
ومنه قول الاخر: أراد لا يبرح ولا يبقى، وقال الزجاجي: وقد تحذف أيضاً ما في هذا الموضع.قال القاضي أبو محمد: وخطأه بعض النحويين، ومن المواضع التي حذفت فيها لا ويدل عليها الكلام قول الشاعر: [الطويل] وقوله ما قبل الزند قادح يوجب أن المحذوف لا، وليست ما، وفتئ بمنزلة زال وبرح في المعنى والعمل، تقول: والله لا فتئت قاعداً كما تقول: لا زلت ولا برحت، ومنه قول أوس بن حجر: [الطويل] والحرض: الذي قد نهكه الهرم أو الحب أو الحزن إلى حال فساد الأعضاء والبدن والحس، وعلى هذا المعنى قراءة الجمهور {حَرَضاً} بفتح الراء والحاء... وقرأ الحسن بن أبي الحسن بضمهما، وقرأت فرقة {حُرْضاً} بضم الحاء وسكون الراء. وهذا كله المصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والجمع بلفظ واحد، كعدل وعدو، وقيل في قراءة الحسن: انه يراد: فتات الشنان أي بالياً متعتتاً، ويقال من هذا المعنى الذي هو شن الهم والهرم: رجل حارض، ويثنى هذا البناء ويجمع ويؤنث ويذكر، ومن هذا المعنى قول الشاعر: [البسيط] وقد سمع من العرب: رجل محرض، قال الشاعر- وهو امرؤ القيس: [الطويل] والحرض- بالجملة- الذي فسد ودنا موته، قال مجاهد: الحرض: ما دون الموت، قال قتادة: الحرض: البالي الهرم، وقال نحو الضحاك والحسن، وقال ابن إسحاق: {حرضاً} معناه فاسد لا عقل له؛ فكأنهم قالوا على جهة التعنيف له: أنت لا تزال تذكر يوسف إلى حال القرب من الهلاك أو إلى الهلاك. فأجابهم يعقوب عليه السلام رادّاً عليهم: أي أني لست ممن يجزع ويضجر فيستحق التعنيف، وإنما أشكو إلى الله، ولا تعنيف في ذلك. والبث ما في صدر الإنسان مما هو معتزم أنه يبثه وينشره، وأكثر ما يستعمل البث في المكروه، وقال أبو عبيدة وغيره: البث أشد الحزن، وقد يستعمل البث في المخفي على الجملة ومنه قول المرأة في حديث أم زرع: ولا يولج الكف ليعلم البث، ومنه قولهم: أبثك حديثي.وقرأ عيسى: {وحَزَني} بفتح الحاء والزاي.وحكى الطبري بسند: أن يعقوب دخل على فرعون وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له فرعون: ما بلغ بك هذا يا إبراهيم؟ فقالوا: إنه يعقوب، فقال: ما بلغ بك هذا يا يعقوب؟ قال له: طول الزمان وكثرة الأحزان، فأوحى الله إليه: يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟ فقال: يا رب خطيئة فاغفرها لي، وأسند الطبري إلى الحسن قال: كان بين خروج يوسف عن يعقوب إلى دخول يعقوب على يوسف ثمانون سنة، لم يفارق الحزن قلبه، ولم يزل يبكي حتى كف بصره، وما في الأرض يومئذ أكرم على الله من يعقوب. وقوله: {وأعلم من الله ما لا تعلمون} يحتمل أنه أشار إلى حسن ظنه بالله وجميل عادة الله عنده، ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة أو إلى ما وقع في نفسه عن قول ملك مصر: إني أدعو له برؤية ابنه قبل الموت، وهذا هو حسن الظن الذي قدمناه.
ومن هذا قول عبيد: ويظهر من حديث الذي قال: إذا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في البحر والبر في يوم راح. فلئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من الناس، إنه يئس من روح الله، وليس الأمر كذلك، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فغفر الله له يقتضي أنه مات مؤمناً إذ لا يغفر الله لكافر، فبقي أن يتأول الحديث، إما على أن قدر بمعنى ضيق وناقش الحساب، فذلك معنى بين، وإما أن تكون من القدرة، ويقع خطأ في أن ظن في أن الاجتماع بعد السحق والتذرية محال لا يوصف الله تعالى بالقدرة عليه فغلط في أن جعل الجائز محالاً، ولا يلزمه بهذا كفر. قال النقاش: وقرأ ابن مسعود {من فضل} وقرأ أبي بن كعب: {من رحمة الله}.وقوله تعالى: {فلما دخلوا عليه} الآية، في هذا الموضع اختصار محذوفات يعطيها الظاهر، وهي: أنهم نفذوا من الشام إلى مصر ووصلوها والضمير في {عليه} عائد على يوسف، و{الضر} أرادوا به المسغبة التي كانوا بسبيلها وأمر أخيهم الذي أهم أباهم وغم جميعهم، والبضاعة القطعة من المال يقصد بها شراء شيء، ولزمها عرف الفقه فيما لا حظ لحاملها من الربح، وال {مزجاة} معناها المدفوعة المتحيل لها، ومنه إزجاء السحاب، ومنه إزجاء الإبل كما قال الشاعر: وكما قال النابغة: [البسيط] وقال الأعشى: [الكامل] وقال الآخر: وقال حاتم: فجملة هذا أن من يسوق شيئاً ويتلطف في تسييره فقد أزجاه فإذا كانت الدراهم مدفوعة نازلة القدر تحتاج أن يعتذر معها ويشفع لها فهي مزجاة، فقيل: كان ذلك لأنها كانت زيوفاً- قاله ابن عباس- وقال الحسن: كانت قليلة، وقيل: كانت ناقصة- قاله ابن جبير- وقيل: كانت بضاعتهم عروضاً، فلذلك قالوا هذا.واختلف في تلك العروض: ما كانت؟ فقيل: كانت السمن والصوف- قاله عبد الله بن الحارث- وقال علي بن أبي طالب: كانت قديد وحش- ذكره النقاش- وقال أبو صالح وزيد بن أسلم: كانت الصنوبر والحبة الخضراء.قال القاضي أبو محمد: وهي الفستق.وقيل: كانت المقل، وقيل: كانت القطن، وقيل: كانت الحبال والأعدال والأقتاب.وحكى مكي أن مالكاً رحمه الله قال: المزجاة: الجائزة.قال القاضي أبو محمد: ولا أعرف لهذا وجهاً، والمعنى يأباه. ويحتمل أن صحف على مالك وأن لفظه بالحاء غير منقوطة وبالراء. واستند مالك رحمه الله في أن الكيل على البائع إلى هذه الآية، وذلك ظاهر منها وليس بنص.وقولهم: {وتصدق علينا} معناه بما بين الدراهم الجياد وهذه المزجاة، قاله السدي وغيره. وقيل: كانت الصدقة غير محرمة على أولئك الأنبياء وإنما حرمت على محمد، قاله سفيان بن عيينة.قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، يرده حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «نحن معاشر الأنبياء لا تحل لنا الصدقة».وقالت فرقة: كانت الصدقة عليهم محرمة ولكن قالوا هذا تجوزاً واستعطافاً منهم في المبايعة، كما تقول لمن تساومه في سلعة: هبني من ثمنها كذا وخذ كذا، فلم تقصد أن يهبك، وإنما حسنت له الانفعال حتى يرجع معك إلى سومك، وقال ابن جريج: إنما خصوا بقولهم {وتصدق علينا} أمر أخيهم بنيامين، أي أوف لنا الكيل في المبايعة وتصدق علينا بصرف أخينا إلى أبيه.وقولهم: {إن الله يجزي المتصدقين} قال النقاش: يقال: هو من المعاريض التي هي مندوحة عن الكذب، وذلك أنهم كانوا يعتقدونه ملكاً كافراً على غير دينهم، ولو قالوا: إن الله يجزيك بصدقتك في الآخرة، كذبوا، فقالوا له لفظاً يوهمه أنهم أرادوه وهم يصح لهم إخراجه منه بالتأويل.
قال أبو علي: وهذا مما لا نحمله عليه، لأنه يجيء في الشعر لا في الكلام، وقيل: من بمعنى الذي ويتقي فعل مرفوع، ويصبر عطف على المعنى لأن من وإن كانت بمعنى الذي ففيها معنى الشرط، ونحوه قوله تعالى: {فأصدق وأكن} [المنافقون: 10] وقيل: أراد يصبر بالرفع لكنه سكن الراء تخفيفاً، كما قرأ أبو عمرو: {ويأمركم} [البقرة: 67] بإسكان الراء.وقوله تعالى: {قالوا: تالله لقد آثرك الله علينا} الآية، هذا منهم استنزال ليوسف وإقرار بالذنب في ضمنه استغفار منه.و{آثرك} لفظ يعم جميع التفضيل وأنواع العطايا، والأصل فيها همزتان وخففت الثانية، ولا يجوز تحقيقها، والمصدر إيثار، و{خاطئين} من خطئ يخطأ، وهو المتعمد للخطأ، والمخطئ من أخطأ، وهو الذي قصد الصواب فلم يوفق إليه، ومن ذلك قول الشاعر- وهو أمية بن الأسكر- [الوافر] وقوله: {لا تثريب عليكم} عفو جميل، وقال عكرمة: أوحى الله إلى يوسف: بعفوك على إخوتك رفعت لك ذكرك؛ وفي الحديث: أن أبا سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية لما وردا مهاجرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عنهما لقبح فعلهما معه قبل، فشق ذلك عليهما وأتيا أبا بكر فكلفاه الشفاعة، فأبى، وأتيا عمر فكذلك، فذهب أبو سفيان بن الحارث إلى ابن عمه علي، وذهب عبد الله إلى أخته أم سلمة، فقال علي رضي الله عنه: الرأي أن تلقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحفل فتصيحان به: {تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين} فإنه لا يرضى أن يكون دون أحد من الأنبياء فلابد لذلك أن يقول: لا تثريب عليكما، ففعلا ذلك، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تثريب عليكم} الآية.والتثريب: اللوم والعقوبة وما جرى معهما من سوء معتقد ونحوه، وقد عبر بعض الناس عن التثريب بالتعيير، ومنه قول النبي عليه السلام: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يثرب»، أي لا يعير، أخرجه الشيخان في الحدود.ووقف بعض القرأة {عليكم} وابتدأ {اليوم يغفر الله لكم} ووقف أكثرهم: {اليوم} وابتدأ {يغفر الله لكم} على جهة الدعاء- وهو تأويل ابن إسحاق والطبري، وهو الصحيح- و{اليوم} ظرف، فعلى هذا فالعامل فيه ما يتعلق به {عليكم} تقديره: لا تثريب ثابت أو مستقر عليكم اليوم. وهذا الوقف أرجح في المعنى، لأن الآخر فيه حكم على مغفرة الله، اللهم إلا أن يكون ذلك بوحي.
|